فصل: تفسير الآيات (69- 71):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (69- 71):

{أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)}
ولما كان يعرف ما يعتقدونه من أمانته وعقله، وظن أنه ما حملهم على هذا إلا العجب من أن يطلع على ما لم يطلعوا عليه، أنكر عليهم ذلك ذاكراً لما ظنه حاملاً لهم ملوحاً بالعطف إلى التكذيب فقال: {أو عجبتم} أي أكذبتم وعجبتم {أن جاءكم ذكر} أي شرف وتذكير {من ربكم} أي الذي لم يقطع إحسانه عنكم قط، منزلاً {على رجل منكم} أي عزه عزكم وشرفه شرفكم فما فاتكم شيء {لينذركم} أي يحذركم ما لمن كان على ما أنتم عليه من وخامة العاقبة.
ولما كان التقدير: فاحذروا، عطف عليه تذكيرهم بالنعمة مشيراً به إلى التحذير من عظيم النقمة في قوله: {واذكروا إذ} أي حين {جعلكم خلفاء} أي فيما أنتم فيه من الأرض، ولما كان زمنهم متراخياً بعدهم، أتى بالجار فقال: {من بعد قوم نوح} أو يكون المحذوف ما اقتضاه الاستفهام في قوله: {أو عجبتم} من طلب الجواب، أي أجيبوا واذكروا، أي ولا تبادروا بالجواب حتى تذكروا ما أنعم به عليكم، وفيه الإشارة إلى التحذير مما وقع لقوم نوح، أو يكون العطف على معنى الاستفهام الإنكاري في {أفلا تتقون}، {أو عجبتم} أي اتقوا ولا تعجبوا واذكروا، أو يكون العطف- وهو أحسن على {اعبدوا الله} وقوله: {خلفاء} قيل: إنه يقتضي أن يكونوا قاموا مقامهم، ومن المعلوم أن قوم نوح كانوا ملء الأرض، وأن عاداً إنما كانوا في قطعة منها يسيرة وهي الشجرة من ناحية اليمن، فقيل: إن ذلك لكون شداد بن عاد ملك جميع الأرض، فكأنه قيل: جعل جدكم خليفة في جميع الأرض، فلو حصل الشكر لتمت النعمة، فأطيعوا يزدكم من فضله، وقيل: إن قصة ثمود مثل ذلك، ولم يكن فيهم من ملك الأرض ولا أرض عاد، فأجيب بما طرد، وهو أن عاداً لما كانوا أقوى أهل الأرض أبداناً وأعظمهم أجساداً وأشدهم خلقاً أشهرهم قبيلة وذكراً، كان سائر الناس لهم تبعاً، وكذا ثمود فيما فيما أعطوه من القدرة على نحت الجبال ونحوها بيوتاً، وعندي أن السؤال من أصله لا يريد فإن بين قولنا: فلان خليفة فلان، وفلان خليفة من بعد فلان- من الفرق ما لا يخفي، فالمخلوف في الثاني لم يذكر، فكأنه قيل: جعلكم خلفاء لمن كان قبلكم في هذه الأرض التي أنتم بها، وخص قوم نوح وعاد بالذكر تذكيراً بما حل بهم من العذاب، ولهذا بعينه خص الله هذه الأمم التي وردت في القرآن بالذكر، وإلا فقد كانت الأمم كثيرة العد زائدة على الحد عظيمة الانتشار في جميع الأقطار، ومعلوم أن الله تعالى لم يترك واحدة منها بغير رسول {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} [الإسراء: 15] وفي قصة هود في سورة الأحقاف {وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه} [الأحقاف: 21]؛ وله سر آخر وهو أن هذه الأمم كان عند العرب كثير من أخبارهم ففصلت لهم أحوالهم، وطوي عنهم من لم يكن عندهم شعور بهم فلم يذكروا إلا إجمالاً لئلا يسارعوا إلى التكذيب بما ينزل فيهم من غير دليل شهودي يقام عليهم.
ولما ذكرهم بمطلق الإبقاء بعد ذلك الإغراق العام، أتبعه التذكير بالزيادة فقال: {وزادكم} أي على من قبلكم أو على من هو موجود في الأرض في زمانكم {في الخلق} أي الخاص بكم {بسطة} أي في الحس بطول الأبدان والمعنى بقوة الأركان، قيل: كان طول كل واحد منهم اثني عشر ذراعاً، وقيل: أكثر.
ولما عظمت النعمة، كرر عليهم التذكير فقال مسبباً عن ذلك {فاذكروا آلاء الله} أي نعم الذي استجمع صفات العظمة التي أنعم عليكم بها من الاستخلاف والقوة وغيرهما، واذكروا أنه لا نعمة عندكم لغيره أصلاً، فصار مستحقاً لأن تخصوه بالعبادة {لعلكم تفلحون} أي ليكون حالكم حال من يرجي فلاحه وهو ظفره بجميع مراده، لأن الذكر موجب للشكر الموجب للزيادة.
ولما كان هذا منه موجباً ولابد لكل سامع منصف من المبادرة إلى الإذعان لهذه الحجة القطعية، وهي استحقاقه للافراد بالعبادة للتفرد بالإنعام، ازداد تشوف المخاطب إلى جوابهم، فأجيب بقوله: {قالوا} منكرين عليه معتمدين على محض التقليد {أجئتنا} أي من عند من ادعيت أنك رسوله {لنعبد الله} أي الملك الأعظم {وحده} ولما كان هذا منهم في غاية العجب المستحق للإنكار، أتبعوه ماهو كالعلة لإنكارهم عليه ما دعاهم إليه فقالوا: {ونذر} أي نترك على غير صفة حسنة {ما كان يعبد آباؤنا} أي مواظبين على عبادته بما دلوا عليه ب {كان} وصيغة المضارع- مع الإشارة بها إلى تصوير آبائهم في حالهم ذلك- ليحسن في زعمهم إنكار مخالفتهم لهم.
ولما كان معنى هذا الإنكار أنا لا نعطيك، وكان قد لوح لهم بالتذكر بقوم نوح وقوله: {أفلا تتقون} إلى الأخذ إن أصروا، سببوا عن ذلك قولهم: {فأتنا} أي عاجلاً {بما تعدنا} أي من العذاب بما لوح إليه إيماؤهم إلى التكذيب بقولهم: {إن كنت من الصادقين} وتسميتهم للانذار بالعذاب وعداً من باب الاستهزاء.
ولما كانوا قد بالغوا في السفه في هذا القول، وكان قد علم من محاورته صلى الله عليه وسلم لهم الحلم عنهم، اشتد التطلع إلى ما يكون من جوابه لهذا والتوقع له، فشفى غليل هذا التشوف بقوله: {قال قد وقع} أي حق ووجب وقرب أن يقع {عليكم من ربكم} أي الذي غربكم به تواتر إحسانه عليكم وطول إملائه لكم {رجس} أي عذاب شديد الاضطراب في تتبع أقصاكم وأدناكم موجب لشدة اضطرابكم {وغضب} أي شدة في ذلك العذاب لا تفلتون منها.
ولما أخبرهم بذلك، بين لهم أن سببه كلامهم هذا في سياق الإنكار فقال: {أتجادلونني} ولما كانت آلهتهم تلك التي يجادلون فيها لا تزيد على السماء لكونها خالية من كل معنى، قال: {في أسماء} ثم بين أنه لم يسمها آلهة من يعبد به فقال: {سميتموها انتم وآباؤكم} ولما كان لله تعالى أن يفعل ما يشاء وأن يأمر بالخضوع لمن يشاء، قال نافياً التنزيل فإنه يلزم من نفي الإنزال: {ما نزل الله} أي الذي ليس الأمر إلا له {بها} أي بتعبدكم لها أو بتسميتكم إياها، وأغرق في النفي فقال: {من سلطان} ولعله أتى بصيغة التنزيل لأن التفعيل يأتي بمعنى الفعل المجدد وبمعنى الفعل بالتدريج فقصد- لأنه في سياق المجادلة وفي سورة مقصودها إنذار من أعرض عما دعا إليه هذا الكتاب النازل بالتدريج- النفي بكل اعتبار، سواء كان تجديداً أو تدريجاً وإشارة إلى أنه لو نزل عليهم في الأمر بعبادتها شيء واحد لتوقفوا فيه لعدم فهمهم لمعناه حتى يكرر عليهم الأمر فيه مرة بعد أخرى، فيعلموا أن ذلك أمر حتم لابد منه كما فعله بنو إسرائيل في الأمر بذبح البقرة لأجل القتيل لأجل أنهم لم يعقلوا معناه، دل ذلك قطعاً على أن الأمر لهم بعبادتها إنما هو ظلام الهوى لأنه عمى محض من شأن الإنسان ركوبه بلا دليل أصلاً.
ولما أخبرهم بوقوع العذاب وسببه، بين لهم أن الوقوع ليس على ظاهرة في الإنجاز، وإنما معناه الوجوب الذي لابد من فقال: {فانتظروا} ثم استأنف الإخبار عن حاله بقوله: {إني} وأشار بقوله: {معكم} إلى أنه لا يفارقهم لخشيته منهم ولا غيرها {من المنتظرين}.

.تفسير الآيات (72- 74):

{فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)}
ولما كان هذا ينبغي أن يكون سبباً للتصديق الذي هو سبب الرحمة، بين أنه إنما سبب لهم العذاب، وله ولمن تبعه النجاة، فبدأ بالمؤمنين اهتماماً بشأنهم بقوله: {فأنجيناه} أي بما لنا من العظمة إنجاء وحيّاً سريعاً سللناهم به من ذلك العذاب كسل الشعرة من العجين {والذين معه} أي في الطاعة، وأشار إلى أنه لا يجب على الله شيء بقوله: {برحمة} أي بإكرام وحياطة {منا} أي لا بعمل ولا غيره.
ولما قدم الإنجاء اهتماماً به، أتبعه حالهم فقال معلماً بأن أخذه على غير أخذ الملوك الذين يعجزون عن الاستقصاء في الطلب، فتفوتهم أواخر العساكر وشذاب الجنود والأتباع {وقطعنا} دابرهم أي آخرهم، هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر تصريحاً بالمقصود وبياناً لعلة أخذهم فقال: {دابر} أي آخر، أي استأصلنا وجعلنا ذلك الاستئصال معجزة لهود عليه السلام {الذين كذبوا بآياتنا} أي ولم يراقبوا عظمتها بالنسبة إلينا وقوله: {وما كانوا} أي خلقاً وجبلة {مؤمنين} عطف على صلة {الذين} وهي {كذبوا بآياتنا} وهي جارية مجرى التعليل لأخذهم مؤذنة بأنه لا يحصل منهم صلاح كما ختم قصة نوح بقول: {إنهم كانوا قوماً عمين} [الأعراف: 64] تعليلاً لإغراقهم، أي أنا قطعنا دابرهم وهم مستحقون لذلك، لأنهم غير قابلين للايمان لما فيهم من شدة العناد ولزوم الإلحاد، فالمعنى: وما كان الإيمان من صفتهم، أي ما آمنوا في الماضي ولا يؤمنون في الآتي، فيخرج منه من آمن وكان قد كذب قبل إيمانه ومن لم يؤمن في حال دعائه لهم وفي علم الله أنه سيؤمن، ويزيده حسناً أنهم لما افتتحوا كلامهم بأن نسبوه إلى السفاهة كاذبين؛ ناسب ختم القصة بأن يقلب الأمر عليهم فيوصفوا بمثل ذلك صدقاً بكلام يبين أن اتصافهم به هو الموجب لما فعل بهم، لأن الإيمان لا يصدر إلا عن كمال الثبات والرزانة وترك الهوى وقمع رعونات النفس والانقياد لواضح الأدلة وظاهر البراهين، فمن تركه مع ذلك فهو في غاية الطيش والخفة وعدم العقل، وأيضاً فوصفهم بالتكذيب بالفعل الماضي لا يفهم دوامهم على تكذيبهم، فقال سبحانه ذلك لنفي احتمال أنهم آمنوا بعد التكذيب وأن أخذهم إنما كان لمطلق صدور التكذيب منهم، وأنهم لم يبادروا إلى الإيمان قبل التكذيب، ويحتمل أن تكون الجملة حالاً، والمعنى على كل تقدير: قطعنا دابرهم في حال تكذيبهم وعدم إيمانهم.
ولما أتم سبحانه ما أراد من قصة عاد، أتبعهم ثمود فقال {وإلى ثمود} أي خاصة، منع من الصرف لأن المراد به القبيلة، وهو مشتق من الثمد وهو الماء القليل، وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى، أرسلنا {أخاهم صالحاً} ثم استأنف الإخبار عن قوله- كما مضى في هود عليه السلام فقال: {قال يا قوم} مستعطفاً لهم بالتذكير بالقرابة وعاطف النسابة {اعبدوا الله} أي الذي لا كمال إلا له {ما لكم} وأكد النفي بقوله: {من إله غيره}.
ولما دل على صدقه في ذلك أنهم دعوا أوثانهم فلم تجبهم، ودعا هو صلى الله عليه وسلم ربه سبحانه فأخرج لهم الناقة، علل صحة ما دعا إليه بقوله: {قد جاءتكم بينة} أي آية ظاهرة جداً على صدقي في ادعاء رسالتي وصحة ما أمرتكم به، وزادهم رغبة بقوله: {من ربكم} أي الذي لم يزل محسناً إليكم؛ ثم استأنف بيانها بقوله: {هذه} مشيراً إليها بعد تكوينها تحقيقاً لها وتعظيماً لشأنها وشأنه في عظيم خلقها وسرعة تكوينها لأجله.
ولما أشار إليها، سماها فقال: {ناقة الله} شرفها بالإضافة إلى الاسم الأعظم، ودل على تخصيصها بهم بقوله: {لكم} حال كونها {آية} أي لمن شاهدها ولمن سمع بها وصح عنده أمرها؛ ثم سبب عن ذلك قوله: {فذروها} أي اتركوها ولو على أدنى وجوه الترك {تأكل} أي من النبات و{في أرض الله} أي مما أنبت الله الذي له كل شيء وهي ناقته كما أن الأرض كلها مطلقاً أرضه والنبات رزقه، ولذلك أظهر لئلا يختص أكلها بأرض دون أخرى.
ولما أمرهم بتركها لذلك، أكد المر بنهيهم عن أذاها فقال: {ولا تمسوها بسوء} فضلاً عما بعد المس {فيأخذكم} أي أخذ قهر بسبب ذلك المس وعقبه {عذاب أليم} أي مؤلم.
ولما أمرهم ونهاهم، ذكر لهم ترغيباً مشيراً إلى ترهيب فقال: {واذكروا} أي نعمة الله عليكم {إذ جعلكم خلفاء} أي فيما أنتم فيه {من بعد عاد} أي إهلاكهم {وبوأكم في الأرض} أي جعل لكم في جنسها مساكن تبوءون أي ترجعون إليها وقت راحتكم، سهل عليكم من عملها في أي أرض أردتم ما لم يسهله على غيركم، ولهذا فسر المراد بقوله: {تتخذون} أي بما لكم من الصنائع {من سهولها قصوراً} أي أبنية بالطين واللبن والآجر واسعة عالية حسنة يقصر أمل الآمل ونظر الناظر عليها مما فيها من المرافق والمحاسن {وتنحتون الجبال} أي أيّ جبل أرتم تقدرونها {بيوتاً}.
ولما ذكرهم بهذه النعم مرغباً مرهباً، كرر ذلك إشارة وعبارة فقال مسبباً عما ذكرهم به: {فاذكروا} أي ذكر إذعان ورغبة ورهبة {آلاء} أي نعم {الله} أي الذي له صفات الكمال فلا حاجة به إلى أحد، فإحسانه هو الإحسان في الحقيقة {ولا تعثوا في الأرض} من العثي وهو الفساد، وهو مقلوب عن العيث- قاله ابن القطاع، وحينئذ يكون قوله: {مفسدين} بمعنى معتمدين للفساد.

.تفسير الآيات (75- 79):

{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)}
ولما حصل الالتفات إلى جوابهم، قيل: {قال الملأ} أي الأشراف، وبينه بقول: {الذين استكبروا} أي أوقعوا الكبر واتصفوا به فصار لهم خلقاً فلم يؤمنوا؛ ونبه على التأسية بقوله: {من قومه} ولما قال: {للذين استضعفوا} كان ربما فهم أنهم آمنوا كلهم، فنفى ذلك بقوله مبدلاً منه: {لمن آمن منهم} أي المستضعفين، فهو أوقع في النفس وأروع للجنان من البيان في أول وهلة مع الإشارة إلى أن أتباع الحق هم الضعفاء، وأنه لم يؤمن إلا بعضهم، ففيه إيماء إلى أن الضعف أجلّ النعم لملازمته لطرح النفس المؤدي إلى الإذعان للحق، وبناؤه للمفعول دليل على أنهم في غاية الضعف بحيث يستضعفهم كل أحد {أتعلمون} أي بدؤوهم بالإنكار صداً لهم عن الإيمان {أن صالحاً} سموه باسمه جفاء وغلطة وإرهاباً للمسؤولين ليجيبوهم بما يرضيهم {مرسل من ربه} وكأنهم قالوه ليعلموا حالهم فيبنوا عليه ما يفعلونه، لأن المستكبيرين لا يتم لهم كبرهم إلا بطاعة المستضعفين.
ولما عملوا ذلك منهم، أعملوهم بالمنابذة اعتماداً على الكبير المتعال الذي يضمحل كل كبر عنده ولا يعد لأحد أمر مع أمره بأن {قالوا} منبهين لهم على غلظتهم وغلطهم في توسمهم في حالهم معبرين بما دل على العلم بذلك والإذعان له {إنا بما أرسل به} وبني للمفعول إشارة إلى تعميم التصديق وإلى أن كونه من عند الله أمر مقطوع به لا يحتاج إلى تعيين {مؤمنون} أي غريقون في الإيمان به، ولذلك {قال الذين استكبروا} أي في جوابهم معبرين بما يدل على المخالفة لهم والمعاندة {إنا بالذي} ووضعوا موضع أرسل به رداً لما جعلوه معلوماً وأخذوه مسلماً {آمنتم به} أي كائناً ما كان {كافرون} ثم سبب عن قولهم قوله: {فعقروا الناقة} أي التي جعلها الله لهم آية، وعبر بالعقر دون النحر لشموله كل سبب لقتلها لأن ابن إسحاق ذكر أنه اجتمع لها ناس منهم فرماها أحدهم بسهم وضرب آخر قوائمها بالسيف ونحرها آخر فأطلق اسم السبب على المسبب، ولكن قوله تعالى: {فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر} [القمر: 29] وقوله: {إذا انبعث أشقاها} [الشمس: 91] وقوله صلى الله عليه وسلم «انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في قومه» قالوا: هو قدار بن سالف، جعلت له امرأة من قومه ابنتها إن عقرها، ففعل فكان أشقى الأولين، وأشقى الآخرين عبد الرحمن بن ملجم المرادي قاتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، جعلت له قطام امرأة من بني عجل جميلة نفسها إن قتله، فالمناسبة بينهما أن كلاًّ منهما ألقى نفسه في المعصية العظمى لأجل شهوة فرجه في زواج امرأة، وقوله صلى الله عليه وسلم «أشقى الأولين عاقر الناقة» يدل على أن عاقرها رجل واحد، وحينئذ يكون المراد به قطع القوائم، فحيث جمع أراد الحقيقة والمجاز معاً، وحيث أفراد أراد الحقيقة فقط، فالتعبير به لأنه الأصل والسبب الأعظم في ذبح الإبل؛ قال البغوي: قال الأزهري: العقر هو قطع عرقوب البعير، ثم جعل النحر عقراً لأن ناحر البعير يعقره ثم ينحره- انتهى. وكأن هذا إشارة إلى أن المراد بالعقر في كلامه النحر، ولا ريب في أن أصل العقر في اللغة القطع، ومادته تدور على ذلك، عقر النخلة. إذا قطع رأسها فيبست، والفرس: ضرب قوائمها بالسيف وأكثر ما يستعمل العقر في الفساد، وأما النحر فيستعمل غالباً في الانتفاع بالمنحور لحماً وجلداً وغيرهما، فلعل التعبير به دون النحر إشارة إلى أنهم لم يقصدوا بنحرها إلا إهلاكها عتواً على الله وعناداً وفعلاً للسوء مخالفة لنهي صالح عليه السلام، ولا يشكل ذلك بما ورد من أنهم اقتسموا لحمها، لأنه لم يدع أن العقر يلزمه عدم الانتفاع بالمنحور، وعلى التنزل فهم لم يريدوا بذلك الانتفاع باللحم، وإنما قصدوا- حيث لم يمكنهم المشاركة جميعاً في العقر- ان يشتركوا فيما نشأ عنه تعريضاً برضاهم به ومشاركتهم فيه بما يمكنهم {وعتوا} أي تجاوزوا الحد في الغلطة والتكبر {عن أمر} أي امتثال أمر {ربهم} أي المحسن إليهم الذي أتاهم على لسان رسوله من تركها {وقالوا} زيادة في العتو {يا صالح ائتنا}.
ولما نزلوا وعيدهم له- حيث لم يؤمنوا به- منزلة الوعد والبشارة، قالوا: {بما تعدنا} استخفافاً منهم ومبالغة في التكذيب، كأنهم يقولون: نحن على القطع بأنك لا تقدر أن تأتينا بشيء من ذلك، وإن كنت صادقاً فافعل ولا تؤخره رفقاً بنا وشفقة علينا، فإنا لا نتأذى بذلك، بل نتلذذ من يلقى الوعد الحسن، وحاصله التهكم منهم به والإشارة إلى عدم قدرته؛ وأكدوا ذلك بقولهم بأداة الشك: {إن كنت من المرسلين} أي الذين سمعنا أخبارهم فيما مضى؛ ثم سبب عن عتوهم قوله: {فأخذتهم الرجفة} أي التي كانت عنها أو منها الصيحة، أخذ من هو في القبضة على غاية من الصغار والحقارة، ولعل توحيد الدار هنا مع الرجفة في قصة صالح وشعيب عليهما السلام في قوله تعالى: {فأصبحوا في دارهم} أي مساكنهم، وجمعها في القصتين مع الصيحة، في سورة هود عليه السلام للإشارة إلى عظم الزلزلة والصيحة في الموضعين، وذلك لأن الزلزلة إذا كانت في شيء واحد كانت أمكن، فتكون في المقصود من النكال أعظم، والصيحة من شأنها الانتشار، فإذا عمت الأماكن المتنائية والديار المتباعدة فأهلكت أهلها ومزقت جماعتها وفرقت شملها، كانت من القوة المفرطة والشدة البالغة بحيث تنزعج من تأمل وصفها النفوس وتجب له القلوب، وحاصله أنه حيث عبر بالرجفة وحد الدار إشارة إلى شدة العذاب بعظم الاضطراب، وحيث عبر بالصيحة جمع إيماء إلى عموم الموت بشدة الصوت، ولا مخالفة لأن عذابهم كان بكل منها، ولعل إحداهما كانت سبباً للأخرى، ولعل المراد بالرجفة اضطراب القلوب اضطراباً قطعهاً، أو أن الدار رجفت فرجفت القلوب وهو أقرب، وخصت الأعراف بما ذكر فيها، لأن مقصودها إنذار المعرضين، والرجفة أعظم قرعاً لعدم الإلف لها- والله اعلم {جاثمين} أي باركين على ركبهم لازمين أماكنهم لا حراك بأحد منهم، ولم يبق منهم في تلك الساعة أحد إلا رجل واحد كان في الحرم، فلما خرج منه أصابه ما أصاب قومه وهو أبو رغال، ومسافة الحرم عن أرضهم تزيد على مسيرة عشرة أيام، ومن الآيات العظيمة أن ذلك الذي خلع قلوبهم وأزال أرواحهم لم يؤثر في صالح عليه السلام والمستضعفين معه شيئاً، وذلك مثل الريح التي زلزلت الأحزاب، وأنالتهم أشد العذاب، ورمتهم بالحجارة والتراب حتى هزمتهم وما نال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه منها كبير أذى، وكفها الله عن حذيفة، وكذا البرد الذي كان ذلك زمانه لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم ليتعرف له أخبارهم.
ولما أصابهم ذلك، سبب لهم الهجرة عن ديارهم ديار السوء والغضب واللعنة فقال تعالى إعلاماً لنا بذلك: {فتولى} أي كلف نفسه الإعراض {عنهم وقال} أي لما أدركه من أحوال البشر من الرقة على فوات إيمانهم وهم أصله وعشيرته {يا قوم} أي الذين يعز عليّ ما يؤذيهم {لقد أبلغتكم} ولعله وحد قوله: {رسالة ربي} لكون آيته واحدة {ونصحت} وقصر الفعل وعداه باللام فقال: {لكم} دلالة على أنه خاص بهم، روي أنه خرج عنهم في مائة وعشرة من المسلمين وهويبكي، وكان قومه ألفاً وخمسمائه دار، وروي أنه رجع بمن معه فسكنوا ديارهم.
ولما كان التقدير: ففعلت معكم ما هو مقتض لأن تحبوني لأجله، عطف عليه قوله: {ولكن} لم تحبوني، هكذا كان الأصل ولكنه عبر بما يفهم أن هذا كان دأبهم وخلقاً لهم مع كل ناصح فقال: {لا تحبون} أي حاكياً لحالهم الماضية {الناصحين} أي كل من فعل فعلي من النصح التام.